فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ}.
عاد الخطاب إلى المشركين بقرينة قوله: {لما تصف ألسنتكم الكذب} فالجملة معطوفة على جملة {وضرب الله مثلًا قرية} [سورة النحل: 112]. الآية.
وفيه تعريض بتحذير المسلمين لأنهم كانوا قريبي عهد بجاهلية، فربّما بقيت في نفوس بعضهم كراهية أكل ما كانوا يتعفّفون عن أكله في الجاهلية.
وعلّق النهي بقولهم: {هذا حلال وهذا حرام}.
ولم يعلّق بالأمر بأكل ما عدا ما حُرم لأن المقصود النهي عن جعل الحلال حرامًا والحرام حلالًا لا أكل جميع الحلال وترك جميع الحرام حتى في حال الاضطرار، لأن إمساك المرء عن أكل شيء لكراهيَةٍ أو عَيْف هو عمل قاصر على ذاته.
وأما قول: {وهذا حرام} فهو يفضي إلى التحجير على غيره ممن يشتهي أن يتناوله.
واللام في قوله: {لما تصف} هي إحدى اللامين اللّتين يتعدّى بهما فعل القول وهي التي بمعنى {عن} الداخلة على المتحدّث عنه فهي كاللام في قوله: {الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا} [سورة آل عمران: 168]، أي قالوا عن إخوانهم.
وليست هي لام التقوية الداخلة على المخاطب بالقول.
{وتصف} معناه تذكر وصْفًا وحالًا، كما في قوله تعالى: {وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى} [سورة النحل: 62].
وقد تقدم ذلك في هذه السورة، أي لا تقولوا ذلك وصفًا كَذبًا لأنه تقَوّل لم يقله الذي له التحليل والتحريم وهو اللّهُ تعالى.
وانتصب {الكذب} على المفعول المطلق ل {تصف}، أي وصفًا كذبًا، لأنه مخالف للواقع، لأن الذي له التحليل والتحريم لم ينبئهم بما قالوا ولا نصب لهم دَلِيلًا عليه.
وجملة {هذا حلال وهذا حرام} هي مقول {تقولوا}، واسم الإشارة حكاية بالمعنى لأوصافهم أشياء بالحِلّ وأشياء بالتحّريم.
و{لتفتروا} علة ل {تقولوا} باعتبار كون الافتراء حاصلًا، لا باعتبار كونه مقصودًا للقائلين، فهي لام العاقبة وليست لام العلّة.
وقد تقدّم قريبًا أن المقصد منها تنزيل الحاصل المحقّق حصولُه بعدَ الفعل منزلةَ الغرض المقصود من الفعل.
وافتراء الكذب تقدّم آنفًا.
والذين يفترون هم المشركون الذين حرموا أشياء.
وجملة {متاع قليل} استئناف بياني في صورة جواب عما يجيش بخاطر سائل يسأل عن عدم فلاحهم مع مشاهدة كثير منهم في حالة من الفلاح، فأجيب بأن ذلك متاع، أي نفع موقّت زائل ولهم بعده عذاب أليم.
والآية تحذّر المسلمين من أن يتقوّلوا على الله ما لم يقله بنصّ صريح أو بإيجاد معانٍ وأوصاف للأفعال قد جَعل لأمثالها أحكامًا، فمن أثبت حلالًا وحرامًا بدليل من معانٍ ترجع إلى مماثلة أفعال تشتمل على تلك المعاني فقد قال بما نصب الله عليه دليلًا.
وقُدم {لهم} للاهتمام زيادة في التحذير.
وجيء بلام الاستحقاق للتنبيه على أن العذاب خقّهم لأجل افترائهم.
{وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ}.
لما شنّع على المشركين أنهم حرّموا على أنفسهم ما لم يحرّمه الله، وحذّر المسلمين من تحريم أشياء على أنفسهم جريًا على ما اعتاده قومهم من تحريم ما أحلّ لهم، نظّرَ أولئك وحَذّر هؤلاء.
فهذا وجه تعقيب الآية السالفة بآية {وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل}.
والمراد منه ما ذُكر في سورة الأنعام، كما روي عن الحسن وعكرمة وقتادة.
وقد أشار إلى تلك المناسبة قوله: {وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون}، أي وما ظلمناهم بما حرّمنا عليهم ولكنهم كفروا النعمة فحُرِموا من نِعم عظيمة.
وغيّر أسلوب الكلام إلى خطاب النبي صلى الله عليه وسلم لأن جانب التحذير فيه أهم من جانب التنظير.
وتقديم المجرور في {وعلى الذين هادوا} للاهتمام، وللإشارة إلى أن ذلك حرّم عليهم ابتداء ولم يكن محرّمًا من شريعة إبراهيم عليه السلام التي كان عليها سلفهم، كما قال تعالى: {كل الطعام كان حلًا لبني إسرئيل إلا ما حرّم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة} [سورة آل عمران: 93]، أي عليهم دون غيرهم فلا تحسبوا أن ذلك من الحنيفية.
{ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119)}.
موقع هذه الآية من اللواتي قبلها كموقع قوله السابق {ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا} [سورة النحل: 110].
فلما ذكرت أحوال أهل الشرك وكان منها ما حرّموه على أنفسهم، وكان المسلمون قد شاركوهم أيام الجاهلية في ذلك، ووردت قوارع الذمّ لما صنعوا، كان مما يتوهم علوقه بأذهان المسلمين أن يحسبوا أنهم سينالهم شيء من غمص لما اقترفوه في الجاهلية، فطمأن الله نفوسهم بأنهم لما تابوا بالإقلاع عن ذلك بالإسلام وأصلحوا عملهم بعد أن أفسدوا فإن الله قد غفر لهم مغفرة عظيمة ورحمهم رحمة واسعة.
ووقع الإقبال بالخطاب على النبي إيماء إلى أن تلك المغفرة من بركات الدين الذي أرسل به.
وذكر اسم الرب مضافًا إلى ضمير النبي للنكتة المتقدمة آنفًا في قوله: {ثم إن ربك للذين هاجروا}.
والجهالة: انتفاء العلم بما يجب.
والمراد: جهالتهم بأدلّة الإسلام.
و{ثمّ} للترتيب الرتبي، لأن الجملة المعطوفة بـ {ثمّ} تضمّنت حكم التوبة وأن المغفرة والرحمة من آثارها، وذلك أهم عند المخاطبين مما سبق من وعيد، أي الذين عملوا السوء جاهلين بما يدلّ على فساد ما علموه.
وذلك قبل أن يستجيبوا لدعوة الرسول فإنهم في مدّة تأخّرهم عن الدخول في الإسلام موصوفون بأنهم أهل جهالة وجاهلية، أو جاهلين بالعقاب المنتظر على معصية الرسول وعنادهم إياه.
ويدخل في هذا الحكم من عمل حَرامًا من المسلمين جاهلًا بأنه حرام وكان غير مقصّر في جهله.
وقد تقدم عند قوله تعالى: {إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة} في سورة النساء (17).
وقوله: {إن ربك من بعدها} تأكيد لفظي لقوله: {ثم إن ربك} لزيادة الاهتمام بالخبر على الاهتمام الحاصل بحرف التوكيد ولام الابتداء.
ويتصل خبر {إنّ} باسمها لبعد ما بينهما.
ووقع الخبر بوصف الله بصفة المبالغة في المغفرة والرحمة، وهو كناية عن غفرانه لهم ورحمته إيّاهم في ضمن وصف الله بهاتين الصفتين العظيمتين.
والباء في {بجهالة} للملابسة، وهي في موضع الحال من ضمير {عملوا}.
وضمير {من بعدها} عائد إلى الجهالة أو إلى التوبة. اهـ.

.قال الشعراوي:

{وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ}.
معنى {تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكذب} تُظهِره على أوضح وجوهه، فليس كلامهم كذبًا فقط، بل يصفه، فمَنْ لا يعرف الكذب فليعرفه من كلام هؤلاء.
والمراد بالكذب هنا قولهم: {هذا حَلاَلٌ وهذا حَرَامٌ} [النحل: 116].
فهذا كذب وافتراء على الله سبحانه؛ لأنه وحده صاحب التحليل والتحريم، فإياك أنْ تُحلِّل شيئًا من عند نفسك، أو تُحرِّم شيئًا حَسْب هواك؛ لأن هذا افتراء على الله: {لِّتَفْتَرُواْ على الله الكذب} [النحل: 116].
وقوله تعالى: {إِنَّ الذين يَفْتَرُونَ على الله الكذب لاَ يُفْلِحُونَ} [النحل: 116].
فإن انطلى كذبهم على بعض الناس، فأخذوا من ورائه منفعة عاجلة، فعمَّا قليل سيُفتضح أمرهم، وينكشف كذبهم، وتنقطع مصالحهم بين الخلق.
ويصف الحق سبحانه ما يأخذه هؤلاء من دنياهم بأنه: {مَتَاعٌ قَلِيلٌ}.
أي: ما أخذتموه بكذبكم وافترائكم على الله متاعٌ قليل زائل، سيحرمكم من المتاع الكثير الباقي الذي قال الله عنه: {مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ الله بَاقٍ} [النحل: 96].
ليس هذا فقط بل: {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النحل: 117].
ثم يقول الحق سبحانه: {وعلى الذين هَادُواْ}.
بعد أن تكلمت الآيات فيما أحلَّ الله وفيما حرَّم، وبيَّنتْ أن التحليل أو التحريم لله تعالى، جاءت لنا بصورة من التحريم، لا لأن الشيء ذاته مُحرَّم، بل هو مُحرَّم تحريم عقوبة، كالذي مثَّلْنَا له سابقًا بحرمان الطفل من الحلوى عقابًا له على سُوء فِعْله.
والذين هادوا هم: اليهود عاقبهم الله بتحريم هذه الأشياء، مع أنها حلال في ذاتها، وهذا تحريم خاصٌّ بهم كعقوبة لهم.
وقوله تعالى: {مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ} [النحل: 118].
المراد ما ذُكِر في سورة الأنعام من قوله تعالى: {وَعَلَى الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ البقر والغنم حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الحوايا أَوْ مَا اختلط بِعَظْمٍ ذلك جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ} [الأنعام: 146].
كل ذي ظفر: الحيوان ليس منفرجَ الأصابع، والحوايا: هي المصارين والأمعاء، ونرى أن كل هذه الأشياء المذكورة في الآية حلال في ذاتها، ومُحلَّلة لغير اليهود، ولكن الله حرَّمها عليهم عقوبةً لهم على ظلمهم وبغيهم، كما قال تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ الله كَثِيرًا وَأَخْذِهِمُ الربا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ الناس بالباطل وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء: 160-161].
أي: بسبب ظلمهم حَرَّمنا عليهم هذه الطيبات.
ذلك لأن مَنْ أخذ حكمًا افتراء على الله فحرَّم ما أحلَّ الله. أو حلَّل ما حرَّم الله لابد أنْ يُعاقبَ بمثله فيُحرِّم عليه ما أحِلّ لغيره، وقد وقع الظلم من اليهود لأنهم اجترأوا على حدود الله وتعاليمه، وأول الظلم وقمته الشرك بالله تعالى: {إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13].
والظلم نَقْل الحق من صاحبه إلى غيره.
ومن ظلمهم: ما قالوه لموسى عليه السلام بعد أن عبر بهم البحر، ومرُّوا على قوم يعكفون على أصنام لهم، فقالوا: يا موسى اجعل لنا إلهًا كما لهم آلهة. قال تعالى: {وَجَاوَزْنَا ببني إسرائيل البحر فَأَتَوْاْ على قَوْمٍ يَعْكُفُونَ على أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ ياموسى اجعل لَّنَا إلها كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف: 138].
ومن ظلمهم: أنهم عبدوا العجل من دون الله.
ومن ظلمهم لموسى عليه السلام: أنهم لم يؤمنوا به. كما قال تعالى: {فَمَا آمَنَ لموسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ على خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ} [يونس: 83].
ومن ظلمهم: {وَأَخْذِهِمُ الربا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ الناس بالباطل} [النساء: 161].
إذن: بسبب ظلمهم وأخذهم غير حَقِّهم حرَّم الله عليهم أشياء كانت حلالًا لهم؛ قال تعالى: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ ولكن كانوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [النحل: 118].
ظلموا أنفسهم بأن أعطوا لأنفسهم متاعًا قليلًا عاجلًا، وحرموها من المتعة الحقيقية الباقية.
ثم يقول الحق سبحانه: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ}.
الحق سبحانه وتعالى يعطي عبده فرصة، ويفتح له باب التوبة والرجاء، فمن رحمته سبحانه بعباده أنْ شرع لهم التوبة من الذنوب، ومن رحمته أيضًا أن يقبلها منهم فيتوب عليهم، ولو أغلق باب التوبة لَتحوَّل المذنب ولو لمرة واحدة إلى مجرم يُعربد في المجتمع، وبفتح باب التوبة يقي الله المجتمع من هذه العربدة.
ويبين الرسول صلى الله عليه وسلم مكانة التوبة فيقول: «لله أشد فرحًا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه فأيس منها فأتى شجرة فاضطجع في ظلها قد أيس من راحلته، فبينا هو كذلك إذ هو بها قائمة عنده فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك. أخطأ من شدة الفرح».
وقوله تعالى في بداية الآية: {ثُمَّ} تدلُّ على كثرة ما تقدم من ذنوب، ومع ذلك غفرها الله لهم لِيُبيِّن لك البَوْن الشاسع بين رحمة الله وإصرار العُصَاة على الكفران بالله، وعلى المعصية.
وقوله تعالى: {بِجَهَالَةٍ}.
أي: بطيش وحُمْق وسَفَه، وجميعها داخلة في الجهل بمعنى أنْ تعتقد شيئًا وهو غير واقع، فالجهل هنا ليس المراد منه عدم العلم، إنما الجاهل مَنْ كانت لديه قضية مخالفة للواقع وهو متمسك بها، والمراد أن ينظر إلى خير عاجل في نظره، ويترك خيرًا آجلًا في نظر الشرع.
وقد ورد هذا المعنى في قول الحق سبحانه: {إِنَّمَا التوبة عَلَى الله لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السواء بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ} [النساء: 17].
بجهالة: يعني في لحظة سَفَه وطيْش، فالعاصي يعلم الحكم تمامًا، ولكنه في غفلة عنه، وعدم تبصُّر بالعواقب، ولو فكَّر في عاقبة أمره ما تجرَّأ على المعصية.
لذلك نقول: إن صاحب المعصية لا يُقدِم عليها إلا في غيبة العقل.
ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن».
ولو استحضر قسوة الجزاء لما أقدم على معصيته، ولكن سفهه وطيْشه يُغلّف الجزاء ويستره عنه ويُزيّن له ما ينتظره من لذة ومتعة عاجلة.
وهَبْ أن شخصًا ألحتْ عليه غريزة الجنس، وهي أشرس الغرائز في الإنسان، ففكّر في الفاحشة والعياذ بالله، وقبل أنْ يقع في هذه الوهدة السحيقة أخذناه إلى موقد النار، وذكّرناه بما غفل عنه من جزاء وعقوبة هذه الجريمة.
بالله عليك، ماذا تراه يفعل؟ هل يُصِرّ على جريمته؟ لا، لأنه كان ذاهلًا غافلًا، وبمجرد أن تذكره يرجع.
إذن: طيشه وسفهه صرفه عن التفكر في العاقبة وأذهله عن رَدِّ الفعل، وجعله ينظر إلى الأمور نظرة سطحية متعجِّلة.
وقوله: {ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وأصلحوا} [النحل: 119].
والتوبة هنا هي التوبة النصوح الصادقة، التي ينوي صاحبها الإقلاع عنها وعدم العَوْد إليها مرة أخرى، ويعزم على ذلك حال توبته، فإذا فعل ذلك قَبِل الله منه وتاب عليه.
ولا يمنع ذلك أن يعود للذنب مرة أخرى إذا ضعُفَتْ نفسه عن المقاومة، فإنْ عاد عاد إلى التوبة من جديد، لأن الله سبحانه من أسمائه {التواب} أي: كثير التوبة، فلم يقل: تائب بل تواب، فلا تنقطع التوبة في حق العبد مهما أذنب، وعليه أنْ يُحدِث لكل ذنبٍ توبة.
بل وأكثر من ذلك، إذا تاب العبد وأحسن التوبة، وأتى بالأعمال الصالحة بدلًا من السيئة، منَّ الله عليه بأن يُبدِّل سيئاته حسنات، وهذه معاملة رب كريم غفور رحيم.
وقوله سبحانه: {إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} [النحل: 119]. فيه إشارة لحرص النبي صلى الله عليه وسلم علينا، وأنه يسرُّه أن يغفر الله لنا. {إِنَّ رَبَّكَ} يا محمد غفور رحيم، فكأنه سبحانه يمتنُّ على نبيه صلى الله عليه وسلم أنه سيغفر للمذنبين من أمته. اهـ.